تآمرهم مع الجاسوسية الروسية
كانت الدولة القيصرية الروسية تتزعم العالم المسيحي وتُعتَبَر قبلة المسيحيين الشرقيين وكان لها أطماع واسعة في العالم الإسلامي وخاصة إيران التي تشترك معها في حدود طويلة، ووجدت الدولة القيصرية ضالتها في هذه الحركة فأضفت عليها حمايتها وحرصت على رعايتها والعيش في كنفها.
كان هناك جاسوساً روسياً يعمل مترجماً سابقاً في السفارة الروسية في إيران، وكان اسمه" كيتازد الغوركي"، وكان يتظاهر بالإسلام وأطلق على نفسه اسم" الشيخ عيسى"، وكان-كما صرح في مذكراته- يبحث ويفتش عن الزائغين في العقائد الإسلامية لضرب المسلمين فيما بينهم للقضاء على وحدتهم وتشتيت شملهم، فكا من أسهل الطرق الموصلة إلى هذا هو إنشاء الخلافات الدينية ونشرها وتسعير نارها فيما بينهم، فاطلع على الطائفة الشيخية التي كانت تخالف في عقيدتها الإسلام فدخل إلى حلقة كاظم الرشتي ، وكان كثير الكلام عن المهدي، ولكن ليسا لمهدي الذي كانوا ينتظرون رجوعه منذ قورن، ولكن المهدي الذي ستحل روحه في جسد الرشتي نفسه.
وقد تَعرّف على الباب فقد كان يحضر معه حلقة الرشتي ، وفي تلك الحلقة وقع هذا الثعلب الروسي على صيده الذي وجده في" علي محمد الشيرازي "، وكان مجاوراً له في المسكن ، فعقَد معه أواصر الصداقة والمودة ، وتبادلا الزيارات ، وانعقدت مجالسهما في جوف الليل على دخان الحشيش الذي سماه " قليان المحبة "، وفي نشوة الغيبوبة التي تنتاب الحشاشين ، اكتشف هذا الجاسوس الماكر أن صيده ثمين، وقد عرف من أحواله أن عقيدته غير مستقرة، وأنه يتغير من حال إلى حال.
وذكَرَ في مذكراته: "رأيت في المجلس الميرزا علي محمد الشيرازي فتبسمت وصممت في نفسي أن أجعله ذلك المهدي المزعوم ، ومن ذلك اليوم بدأت كلما أجد الفرصة أرسخ في ذهنه أنه هو الذي سيكون القائم، وكنت أخاطبه يوميا مناديا له: يا صاحب الأمر، يا صاحب الزمان؛ فكان يبدو عليه امتعاض أولاً ولكنه لم يلبث أن أخذ يتقبل ذلك بسرور كلما سمع هذا النداء، فأثمرَت هذه النداءات وتلك النتائج وبدأ يميل إلى إعداد نفسه داخلياً بما يتطلع إليه من شهرة.
فبعد انتقاله من كربلاء إلى مدينة " بوشهر" جاءني فجأة خطابه في مايو سنة 1844م يخبرني أنه" الباب"، ويدعوني إلى الإيمان به وبأنه باب العلم ونائب صاحب العصر، فكان جوابي إليه: بأني أؤمن به أنه إمام العصر لا بابه ونائبه وأتبعت ذلك برجاء مُلِّح ألا يحرمني مما عنده من حقائق ولا يحجبني عن أصوله لأني أول من يؤمن به ".
ثم يُعقِّب هذا الروسي الماكر قائلا : "وحمدت الله أن سعي لم يضع هباء، وأن جهودي التي أنفقت فيها الجهد والمال قد أثمرت وآتت أُكُلها ".
وهكذا تنكشف الدوافع الخفية والعوامل التي كانت تخطط من وراء ستار على إقامة هذا الصنم الجديد ليلقي في خضم المجتمع الإعلامي تلك البذور المُرة التي ستعكر صفو الأمن، وتثير القلاقل في تلك البقعة من أرض المسلمين.
وبعد أن اتضح أن الروس وقفوا وراء الباب بقوة يلاحظ أن الروس وقفوا وراء بهاء الله كذلك بنفس الدرجة من القوة.
يذكر آواره أن دولة الروس اتصلت ببهاء الله في "آمل" في خلال المرحلة البابية وقدمت له المساعدات اللازمة. ثم بعد إعدام الباب، اتَّهم البابيون ومنهم حسين علي المازندراني (البهاء) بتدبير محاولة اغتيال شاه إيران، فأودع عدد منهم في السجن، أما البهاء الذي لم يكن قد ادعى النبوة أو الألوهية بعد، ولم يكن قد غادر إيران، فإنه التجأ إلى السفارة الروسية التي آوته. وحين طلبت الحكومة الإيرانية تسليمه إليها امتنع الوزير الروسي المفوض بطهران. ثم جرت تسوية بين الدولتين تمّ بموجبها تسليمه إلى رئيس الوزراء الإيراني "آقا خان" مشفوعا بكتاب رسمي من السفير يقول:"إن الحكومة الروسية ترغب أن لا يمسه أحد بسوء وأن يكون في حفظ وحماية تامة، وحذّره أن يكون رئيس الوزراء مسئولاً شخصياً إذا لم يعتنِ به".
ويقول النبيل الزرندي، وهو يذكر هذا الحادث:" إن ناصر الدين شاه اندهش من الخطوة الجريئة وغير المنتظرة التي حصلت من شخص متهم بأنه المحرض الأكبر للتعدي على حياة الشاه، فأرسل في الحال أحد ضباطه الموثوق بهم إلى السفارة لطلب تسليم المتهم لديهم، فامتنع الوزير الروسي عن ذلك.
ويذكر الوزير المفوض الروسي بطهران في مذكراته: " إن البابيين لمّا أطلقوا الرصاص على ناصر الدين شاه - ملك إيران آنذاك - قبض عليهم ومن بينهم المرزا حسين علي البهاء والبعض الآخرين الذين كانوا لي أصحاب السر، فأنا حاميت عنهم وبألف مشقة أثبتُّ أنهم ليسوا بمجرمين» وشهد عمال السفارة وموظفوها. . فنجيناهم من الموت وسيرناهم إلى بغداد".
وكتب المؤرخ الإيراني الدكتور محمد مهدي خان زعيم الدولة: "إن الحكومة القيصرية الروسية كانت تؤيد البابيين بالأسلحة ليقاتلوا بها المسلمين، وتعلِّمهم فنون الحرب والقتال وتموِّلهم بالمال والعتاد.
وفي الواقع تدل معاركهم على أنهم كانوا يحصلون على دعم خارجي كبير؛ كانت الحكومة القيصرية الروسية تقف بقوة إلى جانب بهاء الله، وكان يتسلم مرتباً شهريا منها، وقد اعترف هو في الصفحة 159 من كتاب" مجموعة ألواح مباركة " بأنه كان يتسلم مرتبا شهريا من الحكومة الروسية. وكذلك ذكر هذا في مذكراته الجاسوس الروسي بأنه كان من واجبه أن يوصل المرتبات الشهرية المغرية لزعماء هذه الفرقة الضالة، وأصبح هو العقل المدبر لهم، فهو الذي يضع الخطط ويحدد الأسلوب ويوضح الهدف ويرسم الطريق الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه، بل أصبح هو الذي يؤلف لهم الألواح ويصحح لهم كتباً أخرى بحيث يضيف أو يحذف مايراه، ثم يأمر عملاءه وأصفياءه باستنساخ الكتب ونشرها بين الناس (1)
وقد وضع الروس مدينة عشق آباد المتاخمة للحدود الإيرانية تحت تصرف البهائيين للجوء إليها حين الملمات فأقاموا فيها أول عشرة أذكار لهم. وجعلوا مدينة باكو أيضا تحت تصرفهم فبنوا هنالك معبدا آخر. غير أن حجم المساعدات الروسية انخفض بشكل حاد نتيجة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تمر بها الدولة قبيل سقوط الحكومة القيصرية على يد الشيوعيين،إلى أن انقطعت هذه المساعدات نهائيا بعد ثورة أكتوبر وتسلم البلاشقة زمام الأمور في روسيا بسبب تعاون البهائيين مع الحكومة القيصرية؛ مما أدى بعبد البهاء أن يلجأ إلى بلد آخر. و سبحان مغير الأحوال! !
1-انظر: مذكرات القنصل الرسي كنياز الغوركي المعروف باسم الشيخ عيسى، نقلاً عن كتاب فارسي" باب وبهاء رايشذا سيد" ملخصاً ومختصراً في كتاب البابية لإحسان إلهي ظهير ص164،165